قول القلب: إقراره واعتقاده صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وأن ما جاء به حق، وقد ينشأ عنه عمل القلب، وقد لا ينشأ؛ أما من قال بقلبه ولم ينشأ عن ذلك عمل بقلبه ولا بلسانه، فهو كافر، وهذا موضع معركة طويلة مع المرجئة إلى اليوم؛ لأنهم يدعون أنه عاصٍ؛ يدخل الجنة لإيمانه وإقراره.
وقد قالوا هذا القول لأن الإيمان عندهم هو التصديق فقط، فمن صدق كان مؤمناً عندهم وإن لم ينشأ عن تصديقه عمل.
  1. إلزام المرجئة الحكم بإيمان أبي جهل وفرعون

    المخالفون لـأهل السنة في عدم الاكتفاء بتصديق القلب هم الجهمية والأشعرية.
    أما جهم فلم يشترط التصديق وإنما اشترط المعرفة؛ فمن عرف الله بقلبه أنه حق فهو مؤمن كامل الإيمان؛ يدخل الجنة، وقد عارض الأشعرية قول الجهم كما فعل أبو المعالي في الإرشاد، واشترطوا التصديق، وجعلوا من لم يأت بالشهادتين عاصياً كما نص على ذلك الغزالي في الإحياء.
    وقد رد عليهم أهل السنة بأدلة أثبتوا بها أن الإقرار بالقلب لا يدخل صاحبه في الإيمان.
    وقول الجهمية والأشاعرة يلزم منه إيمان أبي جهل، فقد قال أبو جهل : كنا وبني قصي كفرسي رهان: سقوا وسقينا، وأطعموا وأطعمنا، وكلما عملوا شيئاً من بطولات الجاهلية ومآثرها عملنا، فلما قالوا: منا نبي؛ فمن أين نأتيهم بنبي؟
    بل إن كفار قريش كلهم كانوا مصدقين ومقرين بقلوبهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي مرسل، فكانوا يعتقدون صدق نبوته، ولكنهم رفضوا اتباعه والانقياد لما جاء به، قال تعالى: ((فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ))[الأنعام:33] أي: لا يعتقدون كذبك بقلوبهم، ولكنهم كذبوه حقيقة وواقعاً بدليل قوله تعالى: (( وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ))[فاطر:4]، فهم قد امتنعوا عن قبول الحق والانصياع، قال تعالى: ((وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ))[الأنعام:33].
    والجحود له أسباب أتى ببعضها أبو جهل، وفيها: الحسد والغيرة والمنافسة والكبر وغير ذلك.
    ويخبر الله تعالى عن فرعون وقومه: ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا))[النمل:14] وقال له موسى: ((لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ))[الإسراء:102] فليس هناك حجة أقوى من هذه الحجة، فلا حاجة أن يدعي فرعون أنه على الحق، وأن موسى على الضلال، أو أنه مصلح وموسى مفسد، فإن هذه دعاوى باطلة؛ فإنه في نفسه يعلم أن موسى على الحق المبين ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ))[النمل:14].
    وأما أبو طالب فأمره عجيب وغريب، فإنه لم يكن عنده مثقال ذرة من شك في أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق؛ دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتحمل الأذى من أجله، بل حوصر معه ومع أصحابه في الشعب؛ حتى أكلوا أوراق الشجر كما قال سعد رضي الله عنه: [[حتى كان أحدنا يضع كما تضع الشاة]]، فكان أبو طالب وهو معهم يتحمل كل ذلك؛ وهو القائل في شعره:
    ولقد علمت بأن دين محمد            من خير أديان البرية دينا
    لولا الملامة أو حذار مسبة            لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
    لكنه كان يخشى أن يقول عنه الناس: ترك ملة عبد المطلب؟! فمنعه التعاظم والتفاخر بالآباء والأجداد.
    وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على هداية عمه أبي طالب، فقال الله له: ((إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ))[القصص:56]، فـأبو طالب لا يعد مسلماً بأي وجه من الوجوه، وفي هذا دليل على أن قول القلب وإقراره، واعتقاده صدق الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكفي للحكم على صاحبه بالإيمان، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
    وفرعون وإن كان على يقين بنبوة موسى وصدقه إلا أنه جحد، وابن عربي من الصوفية ألف رسالة في إيمان فرعون والعياذ بالله.
    وفي حديث حذيفة : {آخر الزمان يدرس وشي الإسلام كما يدرس الثوب، حتى لا يدرى ما صلاة ولا صيام ولا نسك، ويبقى الرجل الكبير أو المرأة العجوز يقولون: لا إله إلا الله، يقول الراوي صلة بن أشيم التابعي: وما تغني عنهم (لا إله إلا الله)؟ قال حذيفة : تنجيهم من النار}، ((لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا))[البقرة:286].
  2. استدلال المرجئة بسقوط النطق بالشهادتين عن الأبكم

    والمرجئة ينازعون في كون الإقرار باللسان ركناً في الإيمان، فقالوا: لو كان الإقرار باللسان ركناً لما سقط عن الأبكم، لأن الركن لا يسقط، ويرد عليهم بأن القيام في الصلاة مع القدرة ركن، وهذا متفق عليه بين الشافعية والمالكية والأحناف، فالذي لا يستطيع القيام كالأقطع والكسيح؛ فنحن وأنتم متفقون على سقوط الركن عنه، ولو صلى إنسان قاعداً مع قدرته على القيام في الفرض لما صحت صلاته، فيلزم من قول المرجئة صحة صلاة الرجل قاعداً مع قدرته على القيام في الفريضة، واستدلالهم هذا من أسوأ الاستدلالات.
    إذا أتينا إلى واقعنا المعاصر فسنجد أن توماس كارلايل -وهو مؤرخ إنجليزي مشهور- ألف كتاباً سماه الأبطال، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم الأبطال، وهناك أمريكي آخر ألف كتاب مائة عظيم من العظماء وجعل أول العظماء محمداً صلى الله عليه وسلم، وكثير من المستشرقين يفسرون ما يعرض لمحمد صلى الله عليه وسلم من حالات بأنه وحي، ويستدلون بمشابهة حالته بحالة الأنبياء الذين يقرءون عنهم في العهد القديم، فكل هؤلاء يعتقدون بقلوبهم صدق النبي ونبوته، فهل يعدون من المسلمين ؟! الجواب: لا.
    واليهود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مقرين بنبوته وصدق رسالته، جاء في سنن النسائي والمسند عن صفوان بن عسال قال: {قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي، قال له صاحبه: لا تقل: نبي، لو سمعك كان له أربعة أعين! فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألاه عن تسع آيات بينات، فقال لهم: لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا المحصنة، ولا تولوا يوم الزحف، وعليكم خاصة يهود ألا تعدوا في السبت، فقبلوا يديه ورجليه وقالوا: نشهد أنك نبي، قال: فما يمنعكم أن تتبعوني؟ قالوا: إن داود دعا بألا يزال من ذريته نبي، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود}.
    وادعاؤهما غير صحيح، فإن اليهود لم يقتلوا عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه.
    الشاهد من القصة أنهما أقرا وشهدا ولم يتبعا، ولهذا قال لهما صلى الله عليه وسلم: {وما يمنعكما أن تتبعاني؟} فقول القلب وقول اللسان إذا تجردا عن عمل الجوارح لا يكفيان لحصول الإيمان ولو اجتمعا، بل لابد من عمل القلب وعمل الجوارح حتى يسمى فاعل ذلك مؤمناً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فما بالك بالذي لم يحصل منه إلا قول القلب ولم ينطق باللسان؟!
    وقد كان إبليس مقراً بربه تبارك وتعالى؛ فإنه قد قال: ((رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي))[الحجر:39] وهو مقر بالجنة والنار، ومع ذلك فهو من أكفر خلق الله، ولم تنفعه المعرفة، وأحبار اليهود كانوا من هذا الجنس والعياذ بالله، فمجرد المعرفة أو التصديق أو الإقرار بالقلب دون انقياد القلب وعمل الجوارح لا ينفع صاحبه شيئاً.
    ومن أمثلة ذلك في واقعنا الذي نعيشه من يقول: أنا مؤمن بأن هذا الدين صحيح؛ لكنه لا يصلي ولا يصوم ولا يعمل أي عمل من أعمال الإيمان، ولا يجد نفسه ملزماً باتباع هذا النبي صلى الله عليه وسلم، ومع هذا يقول: الدين الإسلامي صحيح، ومحمد حق، والجنة والنار حق، فهل ينفعه هذا الإقرار والاعتراف؟! الجواب: لا ينفعه ذلك.
    ومثال آخر: إذا قام حاكم يحكم بالدساتير والقوانين الوضعية، والمذاهب الإلحادية الديمقراطية، والدستور الفرنسي، وجعل التشريع للشعب والحاكمية للأمة، وجاءه عالم من العلماء يكلمه عن أحكام الإسلام وتشريعاته، فيرد عليه بقوله: أنا أعرف أن أحكام الإسلام صالحة لكل زمان ومكان؛ لكنه لم يحكم الإسلام في دولته؛ فاعترافه وإقراره لا ينفعانه، ولا فائدة في إقرار بغير اتباع ولا انقياد؛ فهو كأي مستشرق يشهد بأن الإسلام حق، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم حق وهو غير متبع ولا منقاد.
    بهذا نكون قد انتهينا من قول اللسان وقول القلب، وعرفنا أن من لم يأت بهما أو بأحدهما كان كافراً باطناً وظاهراً، يقول شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب الإيمان : إن من لم يأت بالشهادتين كان كافراً ظاهراً وباطناً بإجماع المسلمين، ولا يأخذ حكم المسلمين لا في الدنيا ولا في الآخرة، يقول تعالى: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا))[النساء:65] فلا عبرة بالإقرار والتصديق والاعتراف، دون اتباع ولا تحكيم للنبي صلى الله عليه وسلم، فمن جاء بقول القلب وقول اللسان وجب عليه أن يأتي بعمل حتى يكون مسلماً.
  3. شبهة المرجئة في قياس إخفاء الإيمان على إخفاء النفاق

    هناك شبهة تشكل على المرجئة وعلى غيرهم، وهي أنهم يقولون: ماذا تقولون في الإنسان الذي يأتي بأعمال الجوارح كلها؛ لكنه في الباطن منافق؛ فهو لم يصدق ولم يخلص دينه لله؛ وهو من المنافقين النفاق الأكبر، الذين قال الله تعالى فيهم: ((إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ))[النساء:145].
    وهنا أذكر مقولة للفضيل بن عياض يقول: [[كانوا يراءون -يعني المنافقين الأولين- بما يعملون، فأصبحنا في زمان يرائي أحدهم بما لم يعمل]] فنفاق المتأخرين أشد من نفاق المتقدمين نسأل الله العفو والعافية؛ فيأتي من لم يؤمن بالله ولم يصدق برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يقول: دافعنا عن الدين وفعلنا وفعلنا، وما أكثر هؤلاء! سواء من كان منهم على النفاق الأكبر الجلي، أو من كان دون ذلك، فكله نفاق عافانا الله منه؛ فيقول هؤلاء المرجئة : يتصور أن يأتي المرء بالأعمال الظاهرة كلها وهو في الباطن كافر غير مصدق؛ فما المانع أن توجد الأعمال القلبية الباطنة، ولا توجد الأعمال الظاهرة عند شخص فيكون مخبتاً منيباً خاشعاً متقياً مؤمناً، من أهل الدرجات العلى، ولكنه لا يصلي ولا يزكي ولا يحج؟!
    نقول لهم: هذا القياس فاسد قطعاً؛ لأنه لا يمكن أن يتصور من يعمل بخلاف ما يعتقد، ولا يتصور أن إنساناً يعتقد شيئاً اعتقاداً جازماً، ويريده إرادة تامة جازمة، ولا يفعل من مقتضى ذلك الأمر شيئاً؛ بل لابد أن يظهر هذا الاعتقاد على الجوارح، فلا يمكن للمسلم أن يعمل بخلاف ما يعتقده ((إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيْمَان))[النحل:106] كمؤمن آل فرعون : ((وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ))[غافر:28] فهذه حالة استثنائية.
    أما قولهم: كما أنه يمكن أن يأتي المرء بالعمل الظاهر المخالف لما في الباطن، فكذلك يمكن أن يأتي المرء بالعمل الباطن من غير الظاهر، نقول: لا يمكن ذلك أبداً، ثم نحن لا نعرف ما في قلوب الناس.